كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم اختلفوا في معناها، فقال الضحّاك: نزلت في قوم مخصوصين من المؤمنين، وكانوا كلّهم شهداء، وقد مرّ ذكرهم.
وقال غيره: نزلت في المؤمنين المخلصين كلّهم.
أخبرني عبد الله بن حامد إجازة قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني قال: حدّثنا عبد الله ابن غنام النخعي قال: حدّثنا أبو كريب قال: حدّثنا عبيد بن سعيد، عن شعبة، عن أبي قيس، عن الهرمل، عن عبد الله قال: إنّ الرجل ليقاتل الناس ليرى مكانه، وإنّ الرجل ليقاتل على الدنيا، وإنّ الرجل ليقاتل ابتغاء وجه الله، وإنّ الرجل ليموت على فراشه فيكون شهيدًا، ثم قرأ: {والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أولئك هُمُ الصديقون والشهداء عِندَ رَبِّهِمْ}.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن خالد قال: حدّثنا داود بن سليمان قال: حدّثنا عبد بن حميد قال: حدّثنا أبو نعيم قال: حدّثنا سفيان بن ليث، عن مجاهد قال: كلّ مؤمن صدّيق شهيد، ثم قرأ هذه الآية، يعني موصولة.
وقال ابن عباس في بعض الروايات: أراد بالشهداء الأنبياء خاصّة.
{لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} في ظلمة القيامة. {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ الجحيم اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا}: {ما} صلة مجازه {اعلموا}.
{لَعِبٌ} باطل لا حاصل له {وَلَهْوٌ}: فرح ثم ينقضي {وَزِينَةٌ} منظر يتزيّنون به، {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ}: يفخر به بعضكم على بعض، {وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد} أي يُتاه بكثرة الأموال والأولاد.
وقال بعض المتأوّلين من المتأخّرين: لعب كلعب الصبيان، ولهو كلهو الفتيان، وزينة كزينة النسوان، وتفاخر كتفاخر الأقران، وتكاثر كتكاثر الدهقان.
وقال عليّ بن ابي طالب لعمار بن ياسر: (لا تحزن على الدنيا، فإن الدنيا ستّة أشياء: مطعوم، ومشروب، وملبوس، ومشموم، ومركوب، ومنكوح. فأكبر طعامها العسل وهي بزقة ذبابة، وأكبر شرابها الماء ويستوي فيه جميع الحيوان، وأكبر الملبوس الديباج وهي نسجة دود، وأكبر المشموم المسك، وهي دم فأرة ظبية، وأكبر المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال، وأكبر المنكوح النساء وهو مبال في مبال. والله إن المرأة ليزيَّن أحسنها يراد به أقبحها).
ثم ضرب جلّ ذكره لها مثلا فقال عزّ من قائل: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار} أي الزّرّاع {نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} فيبلى ويفنى {وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ}، يعني: أو مغفرة {مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور سابقوا}: سارعوا {إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا}: سعتها {كَعَرْضِ السماء والأرض} لوصل بعضها ببعض.
وقال ابن كيسان: عنى به جنّة واحدة من الجنان.
{أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ والله ذُو الفضل العظيم مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض} بالجدب والقحط وذهاب الزرع والثمر {وَلاَ في أَنفُسِكُمْ} بالأوصاب والأسقام.
وقال الشعبي: المصيبة: ما يكون من خير وشرّ وما يسيء ويسرّ.
ودليل هذا التأويل قوله سبحانه: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} فذكر الحالتين جميعًا: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} يعني: اللوح المحفوظ {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ}: من قبل أن نخلق الأرض والأنفس.
وقال ابن عباس: يعني المصيبة، وقال أبو العالية: يعني النسَمَة {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} إن خلق ذلك وحفظه على الله هيّن.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن مخلد قال: أخبرنا داود قال: حدّثنا عبيد قال: حدّثنا أبو نعيم قال: حدّثنا الربيع بن أبي صالح قال: دخلت على سعيد بن جبير في نفر فبكى رجل من القوم، فقال: ما يبكيك؟ قال: أبكي لما أرى بك ولما يذهب بك إليه. قال: فلا تبكِ، فإنّه كان في علم الله سبحانه أن يكون، ألم تسمع إلى قول الله عزّ وجلّ: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ} الآية.
{لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ}: تحزنوا {على مَا فَاتَكُمْ} من الدنيا، {وَلاَ تَفْرَحُواْ}: تبطروا {بِمَآ آتَاكُمْ}. قراءة العامّة بمدّ الألف، أي (أعطاكم)، واختاره أبو حاتم.
وقرأ أبو عمرو بقصر الألف أي: (جاءكم)، واختاره أبو عبيد، قال: لقوله سبحانه: {فَاتَكُمْ} ولم يقل: (أفاتكم) فجعل له، فكذلك (أتاكم) جعل الفعل له ليوافق الكلام بعضه بعضًا.
قال عكرمة: ما من أحد إلاّ وهو يفرح ويحزن فاجعلوا للفرح شكرًا وللحزن صبرًا.
{والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}: متكبّر بما أُوتي من الدنيا، فخور به على الناس.
وقال ابن مسعود: لأن ألحسَ جمرة أحرقت ما أحرقت، وأبقت ما أبقت، أحبّ إليّ من أن أقول لشيء كان: ليته لم يكن، أو لشيء لم يكن: ليته كان.
قال جعفر الصادق: (يا بن آدم، مالك تأسّف على مفقود لا يردّه إليك الفوت؟ ومالك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت؟).
وقيل لبزرجمهر: ما لك أيها الحكيم لا تأسف على ما فات ولا تفرح بما هو آت؟ فقال: لأنّ الفائت لا يتلافى بالعبرة، والآتي لا يستدام بالحبرة.
وقال الفضيل في هذا المعنى: الدنيا مفيد ومبيد فما أباد فلا رجعة له، وما أفاد فقد أذن بالرحيل.
وقال الحسين بن الفضل: حمل الله سبحانه بهذه الآية المؤمنين على مضض الصبر على الفائت، وترك الفرح بالآتي، والرضا بقضائه في الحالتين جميعًا.
وقال قتيبة بن سعيد: دخلت بعض أحياء العرب فإذا أنا بفضاء من الأرض مملوء من الإبل الموتى والجيف بحيث لا أُحصي عددها، فسألت عجوزًا: لمن كانت هذه الإبل؟ فأشارت إلى شيخ على تلّ يغزل صوفًا، فقلت له: يا شيخ ألك كانت هذه الإبل؟ قال: كانت باسمي. قلت: فما أصابها؟ قال: ارتجعها الذي أعطاها. قلت: وهل قلت في ذلك شيئًا؟ قال: نعم:
لا والذي أخذ... من خلائقه ** والمرء في الدهر نصب الرزء والمحنِ

ما سرّني أنّ إبْلي في مباركها ** وما جرى في قضاء الله لم يكنِ

وقال سلم الخوّاص: من أراد أن يأكل الدارين فليدخل في مذهبنا عامين؛ ليضع الله سبحانه الدنيا والآخرة بين يديه. قيل: وما مذهبكم؟ قال: الرضا بالقضا، ومخالفة الهوى. وأنشد:
لا تطل الحزن على فائت ** فقلّما يجدي عليك الحزنْ

سيّان محزون على ما مضى ** ومظهرٌ حزنًا لما لم يكنْ

{الذين يَبْخَلُونَ}، قيل: هو في محل الخفض على نعت (المختال)، وقيل: هو رفع بالابتداء وخبره ما بعده. {وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} قرأ أهل المدينة والشام بإسقاط {هُوَ} وكذلك هو في مصاحفهم. الباقون بإثباته.
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان} يعني له يعدل. وقال ابن زيد: ما يوزن به. {لِيَقُومَ الناس بالقسط}: ليعمل الناس بينهم بالعدل {وَأَنزَلْنَا الحديد}، قال ابن عباس: نزل آدم من الجنّة معه خمسة أشياء من الحديد: السندان، والكلبتان، والمنقعة، والمطرقة، والأُبرة.
وقال أهل المعاني: يعني أنه أخرج لهم الحديد من المعادن، وعلمهم صنيعته بوحيه.
وقال قطرب: هذا من النُزُل كما تقول: أنزل الأمر على فلان نزلا حسنًا، فمعنى الآية أنه جعل ذلك نزلا لهم، ومثله قوله: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6].
ودليل تأويل السلف من المفسرين ما أخبرنا أبو سفيان الحسن بن عبد الله الدهقان قال: حدّثنا الحسن بن إسماعيل بن خلف الخيّاط قال: حدّثنا أبو بكر محمّد بن الفرج المعدّل قال: حدّثنا محمّد بن عبيد بن عبد الملك قال: حدّثنا سفيان بن محمّد أبو محمّد (ابن أخت سفيان الثوري) عن عبد الملك بن ملك التميمي عن عبد الله بن خليفة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله عزّ وجلّ أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: فأنزل الحديد، والنّار، والماء والملح».
{فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}، قوّة شديدة، يعني: السلاح والكراع، {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} ممّا يستعملونها في مصالحهم ومعايشهم؛ إذ هو آلة لكلّ صنعة. {وَلِيَعْلَمَ الله}، يعني: أرسلنا رسلنا، وأنزلنا معهم هذه الأشياء؛ ليعامل الناس بالحقّ والعدل وليرى سبحانه {مَن يَنصُرُهُ} أي دينه {وَرُسُلَهُ بالغيب إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه} على دينه {رَأْفَةً وَرَحْمَةً} والرأفة أشد الرقّة {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} من قبل أنفسهم {مَا كَتَبْنَاهَا} فرضناها وأوجبناها {عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغاء} يعني: ولكنهم ابتغوا {رِضْوَانِ الله} بتلك الرهبانية {فَآتَيْنَا الذين آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ}، وهم أهل الرأفة والرحمة والرهبانية التي ابتدعوها طلبًا لرضا الله {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} يعني الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها وكفروا بدين عيسى وتهوّدوا وتنصّروا. وبنحو ما فسّرنا ورد فيه الآثار.
وقال ابن مسعود: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال لي: «يا ابن أمّ عبد، هل تدري من أين اتّخذت بنو اسرائيل الرهبانية؟». قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: «ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى (عليه السلام) يعملون بمعاصي الله سبحانه، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبقَ منهم إلاّ القليل، فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبقَ للدين أحد يدعو إليه، فتعالوا نتفرّق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا عيسى يعنون محمّدًا فتفرّقوا في غيران الجبال، وأحدثوا الرهبانية، فمنهم من تمسّك بدينه ومنهم من كفر». ثم تلا هذه الآية {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} الآية.
{فَآتَيْنَا الذين آمَنُواْ مِنْهُمْ} يعني: من ثبتوا عليها {أَجْرَهُمْ}، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا ابن أم عبد، أتدري ما رهبانية أُمتي؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلاع».
وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني قال: حدّثنا محمّد بن عبد الله ابن سليمان قال: حدّثنا شيبان بن فرّوخ قال: حدّثنا الصعق بن حزن، عن عقيل الجعدي، عن أبي إسحاق، عن سويد بن غفلة، عن ابن مسعود قال: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بن مسعود، اختلف من كان قبلكم على ثنتين وسبعين فرقة ونجا منها ثلاث وهلك سائرهن، فرقة وازت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى فأخذوهم وقتلوهم، وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم تدعوهم إلى دين الله سبحانه ودين عيسى، فساحوا في البلاد وترهّبوا وهم الذين قال الله سبحانه: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}».
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من آمن بي وصدّقني واتّبعني فقد رعاها حقّ رعايتها، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون».
وروى الضحّاك وعطّية عن ابن عباس قال: كتب الله سبحانه عليهم القتال قبل أن يبعث محمّدًا صلى الله عليه وسلم فلما استخرج أهل الإيمان ولم يبقَ منهم إلاّ قليل وكثر أهل الشرك، وذهبت الرسل وقهروا، اعتزلوا في الغيران فلم يزل بهم ذلك حتى كفرت طائفة منهم، وتركوا أمر الله ودينه، وأخذوا بالبدعة وبالنصرانيّة وباليهودية، ولم يرعوها حقّ رعايتها، وثبتت طائفة على دين عيسى حتى جاءهم البيّنات، وبعث الله سبحانه محمّدًا صلى الله عليه وسلم وهم كذلك. فذلك قوله عزّ وجلّ: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ} إلى قوله: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن جعفر قال: حدّثنا عليّ بن حرب قال: حدّثنا ابن فضيل قال: حدّثنا عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وحدّثت عن محمّد بن جرير، قال: حدّثنا أبو عمّار الحسين بن حريث قال: حدّثنا الفضل ابن موسى عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت ملوك بعد عيسى (عليه السلام) بدّلوا التوراة والإنجيل. وكان فيهم مؤمنون يقرأون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله ويأمرونهم بتقوى الله سبحانه، فقيل لملكهم: لو جمعت هؤلاء الذين شقّوا عليكم وآذوكم فقتلتموهم، أقرّوا بما نقرّ به، ودخلوا فيما نحن فيه. فدعاهم ملكهم وجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل. إلاّ ما بدّلوا فيها، فقالوا: ما تريد منّا؟ نحن نكفيكم أنفسنا. فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا اسطوانة ثم ارفعونا إليها ثم اعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نردّ عليكم. وقالت طائفة أخرى: دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونسرب كما تسرب الوحش فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا. وقالت طائفة منهم: ابنوا لنا دورًا في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرِد عليكم ولا نمرّ بكم. وليس أحد من أولئك إلاّ له حميم منهم، ففعلوا ذلك بهم فمضى أولئك على منهاج عيسى، وخلف قوم من بعدهم ممّن قد غيّر الكتاب، فجعل الرجل يقول: نكون في مكان فلان فنتعبّد كما تعبّد فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتّخذ دورًا كما اتّخذ فلان، وهم على شركهم، ولا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم، فذلك قوله سبحانه: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغاء رِضْوَانِ الله}. قال: ابتدعها هؤلاء الصالحون فما رعوها حقّ رعايتها، يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم، {فَآتَيْنَا الذين آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} يعني الذين: ابتدعوها {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}: الذين جاؤوا من بعدهم. قال: فلمّا بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم (عليه السلام) ولم يبق منهم إلاّ قليل، انحطّ رجل من صومعته، وجاء السائح من سياحته وصاحب الدير من ديره، وآمنوا به وصدّقوه فقال الله عزّ وجلّ: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ} محمّد (عليه السلام) {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} قال: أجرين؛ لإيمانهم بعيسى والإنجيل وإيمانهم بمحمّد والقرآن، {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} يعني: القرآن {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} الذين يتشبّهون بهم {أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّن فَضْلِ الله} إلى آخرها.
وقال قوم: انقطع الكلام عند قوله: {وَرَحْمَةً} ثم قال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}؛ وذلك أنّهم تركوا الحقّ، وأكلوا لحم الخنزير، وشربوا الخمر، ولم يتوضّؤوا ولم يغتسلوا من جنابة، وتركوا الختان، {فَمَا رَعَوْهَا} يعني: الطاعة والملّة {حَقَّ رِعَايَتِهَا}. كناية عن غير مذكور. {فَآتَيْنَا الذين آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ}، وهم أهل الرأفة والرحمة {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}، وهم أهل الرهبانية والبدعة، وإليه ذهب مجاهد.
ومعنى قوله: {إِلاَّ ابتغاء رِضْوَانِ الله}: وما أمرناهم إلاّ بذلك وما أمرناهم إلاّ بالترهّب، أو يكون وجهه: إلاّ ابتغاء رضوان الله بزعمهم وعَنَدهم، والله أعلم.
{يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ} محمّد (عليه السلام) {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ}: نصيبين {مِن رَّحْمَتِهِ}؛ لإيمانكم بالأوّل وإيمانكم بالآخر.
وقال أبو موسى الأشعري: كفلين: ضعفين بلسان الحبشة.
قال ابن جبير: وأصله ما يكتفل به الراكب من الثياب والمتاع فيحبسه ويحفظه من السقوط، يقول: يحصنكم هذا الكفل من العذاب كما يحصن الراكب الكفل من السقوط. ومنه الكفالة؛ لأنّها تحصن الحقّ.
{وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} في الناس، وعلى الصراط أحسن.
وقال ابن عباس: النور القرآن.